التفكيكية: هشاشة المعنى وتلاشيه في بنية الخطاب

التفكيكية: هشاشة المعنى وتلاشيه في بنية الخطاب

 

 

يسعى مشروع جاك دريدا التفكيكي نحو الكشف عن لا استقرارية اللغة والنظام بصورة عامة، ورفض فكرة أنه يمكننا السيطرة على النظام، وعلى الطبيعة ككل تبعاً لذلك. فلا يمكننا، حسب دريدا، التنبؤ بنشاط العلامة، ولا يوجد أي ارتباط نهائي قار وثابت لضمان إشكاليات التواصل من خلال اللغة. فزلات اللسان والأخطاء تحدث دائما. وللكلمات تاريخ وظلال من المعاني والسياقات السابقة التي وُظفت فيها. وحتى على المستوى الصوتي هناك بعض الأصوات التي تحمل إيحاءات مختلفة لمتلقين مختلفين.

 

طرح دريدا مفاهيم مثل الاختلاف والتأجيل والإرجاء بدلا من المفاهيم البنيوية المتعلقة بالثبات والاستقرار والتكرار اللانهائي للنمط. فدريدا يؤكد على وجود لا-نهائية ولا- تحديد في موروث المعنى. إن المعنى اللغوي هو ظاهرة غير مستقرة في جميع الأوقات والسياقات، ويظهر ذلك من خلال دراسة الخطابات التي توظف اللعب اللغوي بالكلمات والتوريه (Pun). وهكذا تكتسب اللغة، كما يقول دريدا، طاقات لانهائية لتوليد المعاني الجديدة وللإبداع. ويتلاشى المعنى المحدد والمستقر في اللحظة التي يتم فيها إنتاج الخطاب سواء عن طريق التلفظ أو الكتابة، ويأخذ بالتحول في كل مرة يُوظف فيها ذلك الخطاب وعند كل متلقٍ جديد. ينتقد دريدا الفلسفة الغربية لاعتقادها بإمكانية (حضور) المعنى كاملا ونهائيا في عقل المتكلم، وأن هذا المعنى ينتقل ليستقر في (الخطاب) وينتقل كما هو إلى المتلقي. وهذا ما يدعوه دريدا (بميتافيزيقيا الحضور Metaphysics of Presence). ويرفض دريدا فكرة ميتافيزيقيا الحضور، ويذهب إلى أن إنكار وجود نوع من الإزاحة في المعنى ــــ الذي يفترض أن يكون حاضرا دائما كما هو في ذهن المتكلم ومن ثم ينتقل إلى الخطاب كما هو أيضاً دون تغيير أو إزاحةــــــ محض وهم (Illusion) نميل إلى الأخذ به بتأثير الثقافة الإنسانية. ذلك أن الاختلاف والتأخير دائما ما يقع للمعنى ويعطل الحضور الكلي. وبذلك أصبح التأكيد على الاختلاف والتأجيل والمعنى الغير قابل للتحديد والاكتمال داخل النظام من المبادئ الأساسية لما بعد البنيوية وما بعد الحداثة.

 

ومن هذا المنطلق يصدر الفيلسوف البراغماتي الأمريكي البارز ريتشارد رورتي متأثرا بمقولات دريدا التفكيكية، في طرح تصوره للنشاط التأويلي الذي يمارسه المتلقي على النصوص. فعلى العكس من مقولات الفيلسوف السيميائي الإيطالي الشهير أمبرتو إيكو المتعلقة بوجود ضوابط جمالية وتأويلية يفرضها النص على المؤول، يأخذ رورتي بالفلسفة التفكيكية والتي تقوم بتفكيك المعنى وتقول بالمعنى المرجأ. وهكذا يصبح المعنى الحقيقي للنص هو لا معناه، أو هو فراغه من المعنى. "إن أي معنى نمنحه لنص ما، مهما كانت شموليته، يتفكك بالضرورة وبكيفية تلقائية تحت تأثير العناصر النصية الأخرى التي لم يكن قادرا على إدماجها، إنه يتفكك لأنه عاجز عن الإمساك بكلية النص. وبالفعل نفسه، فإن المعنى "النهائي" و"الأصلي" الذي يمكننا أن نحكم على المعاني الأخرى أو التأويلات الأخرى على ضوئه "مرجأ" دائما وإلى ما لانهاية، لأن النص يستمر في إثارة معاني أخرى".

 

ومع مقولات رورتي يصبح التماسك والانسجام النصي من نتاج العملية التأويلية ذاتها، ويصبح قصد النص من إنتاج القاري، و يتطابق بذلك قصد القارئ وقصد النص دائما. لا تكفي مقولة الانسجام النصي، بالنسبة لرورتي، للتمييز بين عمليات تأويل أو توظيف النص كما يقول إيكو. وهكذا يستطيع المؤول أن يؤول النص كيفما شاء، فقصد النص ليس سوى ظلال لمقاصدنا الخفية التي تحكمها غاياتنا وأهدافنا ومصالحنا. ولا يملك النص "ماهية" ولا يقول شيئا معينا ولا يستطيع أن يحقق تلك الماهية بمجرد افتراض (الانسجام الداخلي).

 

فالنص يقوم بمنحنا مثيرات أو محفزات دلالية تجعل من السهل أومن الصعب نسبيا أن نقتنع أو نقنع الآخرين بالكيفية التي نؤول نحن بها هذه المثيرات.

 

وتدور مجمل مقولات دريدا التفكيكية حول مفهوم المعنى وهشاشته وتلاشيه في بنية الخطاب، وذلك لأن كل معنى نمنحه لدال معين أو مجموعة من الدوال، سوف يتفكك بسبب تقابله أو تناقضه مع مدلولات الدوال الأخرى. ويتحقق هذا التناقض من خلال النفاذ إلى النص من حوافه وهوامشه وحواشيه. ويعاني المعني من عدم الاستقرار وعدم توقف سيرورة التأويل، وتصبح مهمة التأويل الكشف عن حقيقة أن النص ليس إلا مكانا لالتقاء المتضادات، وتصبح اللغة تعبيرا عن نقض الفكر وعجزه عن التواصل. ويظل المعنى الحقيقي للنص هو فراغه من أي معنى لأنه لا يستطيع أن يؤكد معنى ما دون أن يناقض نفسه. ويرى رولان بارت أن المعنى يظل في عملية انزلاق إلى ما لانهاية ولن يكون بإمكاننا سوى التمتع بما يثيره النص في مخيلتنا من إيحاءات ومن تداعيات. ولذلك يؤكد تزفتان تودوروف على أن التأويل هو (نزهة) في النص. وهذه الرؤية التفكيكية للنص وللتأويل وسيرورة إنتاج المعنى تتناقض تماما مع الرؤية البنيوية التي تنزع نحو الانضباط والثبات والصرامة والجدية العالية.

 

منذ أن أصبح جاك دريدا أستاذا في جامعة ييل الأمريكية في نهاية الستينيات من القرن العشرين بدأت ما بعد البنيوية تجذب العديد من النقاد البارزين من أساتذة الجامعات والمتخصصين. وقد تشكلت حول دريدا حلقة نقدية عرفت بنقاد جامعة ييل تأثرت بمنهج دريدا التفكيكي ونقلته إلى النقد الأمريكي في محاولة للخروج على تقاليد ما يعرف "بالنقد الجديد". والنقد الجديد حركة نقدية أمريكية ظهرت بعد الحرب العالمية الأولى وازدهرت في الأربعينيات والخمسينيات من القرن العشرين، وقد سميت بهذا الاسم بعد أن أصدر الناقد الأمريكي البارز جون كرو رانسوم كتابه (النقد الجديد) عام 1941. ويعد النقد الجديد نوعا من النقد الشكلي الذي يتعامل مع النص الأدبي بوصفه كيانا نصيا مكتفيا بذاته ومنفصلا عن السياقات التي أنتج ضمنها مثلما هو منفصل عن سياقات التلقي والقراءة وليس له علاقة بالسيرة الذاتية لمؤلفه. وقد انضم إلى النقد الجديد مجموعة من النقاد البارزين في الثقافة الأنجلوأمريكية مثل وليم ومسات وف. ر. ليفيز وروبرت بن وارين وكلينيث بروك وت. س. أليوت ور. ب. بلاك مور. كان جيل الستينيات من النقاد الأمريكان قد بدأ البحث عن اتجاهات نقدية جمالية جديدة تجدد دماء النقد الأمريكي وتكسر الحدود والتقاليد التي وضعها النقد الجديد على الممارسة النقدية. وفي هذا الإطار، يعد تحول الناقد جيفري هارتمان من النقد الجديد إلى التفكيكية وترحيبه بظهورها في الساحة النقدية الأمريكية مثالا على الحماسة التي أبداها النقاد الشباب الأمريكان تجاه ما بعد البنيوية. ومن أبرز الأسماء التي عرفت ضمن النقد التفكيكي الأمريكي هارولد بلوم وبول دي مان وجي. هللس ميلر. اتجه نقاد جامعة ييل نحو الأدب الأنجلوأمريكي الرومانسي، وخصوصا الشعر، وأنتجت دراساتهم مقاربات جديدة وتأويلات مغايرة للنصوص الرومانسية ساهمت في تحويل النقد من ممارسة أكاديمية جافة إلى إبداع يضاهي جماليات الكتابة الإبداعية الأدبية. ويوضح رامان سلدن أن بول دي مان وأقرانه من التفكيكيين الأمريكيين قد وجدوا في الشعر الرومانسي دعوة مفتوحة إلى التفكيك، بل أن دي مان "يذهب إلى أن الرومانسيين يفككون كتاباتهم حين يبينون أن الحضور الذي يرغبون فيه غائب دوما سواء في الماضي أو المستقبل". ويمثل حضور العالم المثالي والطبيعة النقية والتجربة الشعورية العميقة في عالم النص الشعري معادلا للغياب القسري لتلك المواضيع عن العالم الواقعي. ولم يكتف نقاد جامعة ييل بدراسة النصوص الأدبية الإبداعية، بل اتجهوا إلى مراجعة نقدية شاملة لاتجاهات النقد الأمريكي الحديث، مثلما فعل بول دي مان في كتابيه (البصيرة والعمى ( الصادر عام 1971 و(امثولات القراءة Allegories of Reading) الصادر عام 1979. وقد أكد هؤلاء النقاد على أن العمى ظاهرة ضرورية للطبيعة البلاغية للغة الأدبية وأن النصوص لا تعطينا معنى ثابتا بل تقترح علينا قراءات أفضل فقط لأن المعنى في النص الأدبي مؤجل أو "مرجأ " إلى الأبد، ولا توجد هناك قراءات سيئة وأخرى جيدة كما تصورها النقد الجديد.

 

 

* باحثة ومترجمة فلسطينية حاصلة على ماجستير تكنولوجيا حيوية، ماجستير تربية وعلم نفس، بكالوريوس صيدلة، صدر لها مجموعة أبحاث أبرزها:

 

1- أفق يتباعد: من الحداثة إلى بعد ما بعد الحداثة، دار نينوى للنشر والتوزيع. دمشق 2014.

2- الإنسان في ما بعد الحداثة، دار يوتوبيا، بغداد، 2014

3- نهايات ما بعد الحداثة: إرهاصات عهد جديد، مكتبة ودار عدنان للنشر 2013.

4- فصل في موسوعة: الفلسفة الغربية المعاصرة: صناعة العقل الغربي من مركزية الحداثة إلى التشفير المزدوج- الجزء الثاني.

أضف تعليقك