Academia.edu no longer supports Internet Explorer.
To browse Academia.edu and the wider internet faster and more securely, please take a few seconds to upgrade your browser.
2018, Al-Azhar University, Egypt
ان مما لا شك فيه بأن علم الكلام لا بد ان يكون علما يستجيب لتحديات العصر وحاجيات المسلمين العقدية، ولكن كيف يكون هذا العلم متأهلا لذلك؟ وكيف تطويره حسب الزمان؟ فهو أمر مختلف فيه بين مؤيدي التجديد. فلا بد ان ينبثق الجواب لهذا السؤال من التفكر في الخلفية التي ترعرع فيها فكرة التجديد. لقد نشأت تلك الفكرة باحتكاك المسلمين مع الثقافة الغربية التي تقدمت بالمنهج التجريبي الذي يعد العمود الفقري للعلوم الطبيعية، والتي جاءت بالمدارس الفلسفية مثل المادية الجدلية والوجودية والوضعانية المنطقية التي ترفع لواء الطبيعية والدهرية والإلحادية، حتى زلت أقدام كثير ممن صرح او لمح إلى تجديد علم الكلام أمام هذا التيار الغربي حيث انبهروا بالمنهج التجريبي وتجنبوا عن الغيبيات مثل المعجزات وأولوها عقليا عندما ناقضت، حسب رأيهم، للتجربة والمشاهدة. فإذن هناك سؤال مهم فهو هل هذه الأفكار جديدة حتى نجدد علم الكلام لصالحها؟ فالجواب، لا؛ أصول كثير من تلك المدارس لا زالت أمام الناس منذ المدارس الفلسفية الإغريقية، التي واجهتها العلماء المتكلمون في مناظراتهم مع الفلسفة الإغريقية في كتبهم العقدية كما فعله الإمام الغزالي والرازي. الشيء الجديد هو التقدم الذي وافاه الغرب في المنهج التجريبي الذي يعد أساسا للعلوم الطبيعية. فما موقف الإسلام منها؟ إن الإسلام لا يرد المنهج التجريبي، بل هو، كما يقول البوطي، يتضمن في المنهج العلمي الإسلامي المشهور "ان كنت مدعيا فالدليل". فالشيخ البوطي يستنبط المنهج التجريبي من التراث الإسلامي العلمي القائل "إن كنت ناقلا فالصحة، وإن كنت مدعيا فالدليل" ويضعه في مكانه الصحيح، ويرى المشكلة في هؤلاء الذين لم يفهموا التراث فهما صحيحا. فما الذي يبقى في تجديد علم الكلام؟ لم يبق فيه إلا قراءة علم الكلام التراثي وتحليلها حسب الأولويات، ثم التوجه الى الأفكار المعاصرة التي تتحدى العقيدة الإسلامية اليوم، ودراستها دراسة موضوعية من مصادرها الأصلية وإدخالها في المناهج الدراسية للعقيدة الإسلامية، ثم القيام بالرد عليها حسب القانون العلمي التراثي المذكور أعلاه. فدراسة تلك المدارس تجري بإقامتها على معيار العلم كما فعل الإمام الغزالي مع الفلسفة الإغريقية في تهافت الفلاسفة، ثم تحليلها في ضوء القرأن والسنة. فلقد طبق البوطي هذا المنهج فعلا في كتبه الثلاثة: كبرى اليقينيات الكونية، والمذاهب التوحيدية والفلسفات المعاصرة، ونقض أوهام المادية الجدلية حيث ذكر العقيدة على منوال التراث الكلامي الإسلامي الصحيح ومع ذلك ادخل المباحث العقدية المعاصرة في تلك الكتب، فقلل البحث في أمور ذكرت مطولة في كتب التراث حيث لا يوجد لها كثير شبه اليوم، وفصل القول في أمور أخرى كما ذكرت في تلك الكتب حيث يوجد لها الشبه في الحاضر كما كان في الماضي، ومع ذلك توجه الى الشبه الحية في تلك المسائل فمثلا ذكر الكيد الصليبي في مسألة خلق القرأن، ثم أدخل فيها كثيرا من الأمور المتجددة حيث تمثل الخصم اللدود للإسلام اليوم، مثل المباحث حول الداروينية، والعلمانية، والمادية الجدلية، والوجودية. هذا هو الذي فعله أسلافنا المتكلمون عندما غيروا المباحث الكلامية طبقا للشبهات الواردة على العقيدة، فكان منهم من تعمق في الديانات الهندية البرهمية والسمنية والفارسية الثنوية والإغريقية الفلسفية وغيرها ورد عليها على الوجه المناسب مثل الإمام الباقلاني والغزالي والشهرستاني وغيرهم، فكانوا يجددون الكلام لأهل زمانهم. فالذين انبهروا بالمنهج التجريبي ونادوا على إدخالها في علم الكلام رد عليهم البوطي بأن كل منهج له مقامه، فالنقل انما يحلل بتصحيح النقل لا بالتجربة، وانما يجرى المنهج التجريبي على المشاهدات فقط، وأما الغيبيات فطريق إثباتها إما بالرجوع إلى تصحيح النقل او إلى المناهج العقلية مثل القياس وقانون التلازم، فهما اي المنهج التجريبي والمنهج العقلي يندرجان تحت "إن كنت مدعيا فالدليل"، فهما طريقان لغرض واحد. اما المشكلة التي يرى البوطي في قراءة التراث فهي العكوف على الكتب التراثية بغض النظر عن التحديات المعاصرة. أشار الىيها عندما ميز بين المتغيرات والثوابت في علم الكلام في كتابه المذاهب التوحيدية والفلسفات المعاصرة، وعندما ذكر الحاجة إلى إدخال المباحث حول المدارس الفلسفية المعاصرة مثل المادية الجدلية في المنهج الدراسي للعقيدة. فالثوابت التي هي الأمور الإيمانية الستة لا تجدد، بل المتغيرات المتمثلة في الشكوك المختلفة التي ترد على الإسلام حسب الزمان والمكان هي التي يجدد على وفقها علم الكلام. لأن العكوف على المسائل المماتة بلا توجه الى الحاضر لا يحقق الأهداف التي لأجلها يقوم علم الكلام. فهذه الورقة دراسة للمنهج الدقيق الذي اتبعه البوطي في دراسة التراث الكلامي وقراءته في العالم الحاضر، الذي هو مثال فعلي لتجديد علم الكلام، كما تحاول لتحليل موقفه في ضوء المؤلفات الأخرى التي تدعو إلى تجديد هذا العلم. فالرجاء من هذه الورقة ان تكون نافعة للمعاهد التراثية التي لا تزال تنهل العلوم من المصادر التراثية الكلامية وتجند طلابها لمواجهة التحديات المعاصرة.